arenfrfaestr

أثر فيروز والمسرح الرحباني على المجتمع اللبناني

د. ثناء الحلوة[1]

يعتبر المسرح أحد أهم أشكال الفنون الأولى التي استخدمها الإنسان في التعبير عن نفسه وعن مجتمعه، فقد استُخْدِمَ المسرح في بلاد الإغريق للتعبير عن التوق الديني وارتبط بالطقوس الدينية، لاحقاً تحول مع تقدم الزمن إلى منصة تؤدي وظيفة اجتماعية وسياسية، تهدف إلى فهم ما يحدث ضمن سياق مجتمعي ما، وكشف العلاقة بين الذات وذلك المجتمع، لتشكيل بحث مشترك عميق حول إشكاليات كبيرة تطرح ضمن تمثيلات تجسيدية مختلفة، تحقق اليقظة الاجتماعية.

عمل كل مجتمع على اختيار شكل المسرح الذي يمثله، ونوعية القضايا التي تطرح على خشبته، وكان من أبرز هذه المسارح مسرح المجتمع المحلي الذي يعرّفه بيتر بيلينجهام بأنه ذلك "المسرح الذي ينبع من مجتمعه وفيه وبه ومن أجله". ويضيف أنه "أقرب الأنواع المسرحية إلى نسيج الحياة الاجتماعية"، ما يعني أنه أداة تدخّل مجتمعية مقبولة من الجماعة نفسها؛ أداة تسعى إلى تحقيق الفهم بين أفرادها، فَهْمٌ يبدأ من الذات والدور الذي تقوم به وعلاقتها بالآخر وتأثره بها وتأثيرها عليه، إلى أن أصبح فهماً للبنية المجتمعية التي تشكل تلك الجماعة. [2]

لاحقاً، أصبح المسرح يبحث عن العلاج لكل الأمراض والجروح الاجتماعية. لكأن المسرح علاج وشفاء تطهيري للأفراد والجماعات[3]؛ فلا نستطيع ان ننظر إلى المسرح بمعزل عن البيئة الاجتماعية والسياسة الاجتماعية والواقع المرافق؛ كذلك لا يمكننا إلا أن ندرس تأثير هذا المسرح على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

 

بدايات المسرح العربي:

أتت أول إشارة الى وجود فن مسرحي في العالم العربي في كتاب الرحالة كارستين نيبور الذي وصل إلى الإسكندرية في أيلول/سبتمبر 1761، وبقي هناك لفترة طويلة مختلطا بسكانها من مصريين واوربيين.

وقد عدّد نيبور العروض المسرحية التي كانت تقام في مصر: فن الغوازي، فن الأراجوز، فن خيال الظل، ثم فن المسرح الذي كان يضم عددا كبيرا من الممثلين، وكانوا يمثلون في العراء أو في الساحات العامة أو الخاصة. [4]

لعب رواد المسرح في كل من مصر وسوريا ولبنان دورا هاما ومفصليا في وضع اللبنات الأولى للمسرح العربي، لكن هذا الفن تطور وانتعش في مصر.  يعزى ذلك إلى شبه الاستقلال الذي تمتعت به مصر، في تلك الحقبة الزمنية، وبعدها الجغرافي عن مركز الخلافة العثمانية. فقد قام الخديوي اسماعيل ببناء دار للأوبرا (1869)، بينما تعرضت بلاد الشام، في تلك الفترة، لحركة قمع فكرية عثمانية تركية، مما حدا بكثير من الفنانين والشعراء إلى النزوح من بلاد الشام إلى مصر.[5]

ولأن مصر- أم الدنيا وأم العالم العربي- فقد فتحت أبوابها وذراعيها لكل العرب بشكل عام وللفنانين اللبنانيين بشكل خاص، فاحتضنت مارون النقاش واسيا كويني وماري منيب ونور الهدى وصباح وبشارة واكيم والكثير الكثير غيرهم من اللبنانيين؛ واحتضنتهم كما أولادها وساهمت في نجاحهم وتميزهم.

 

العمل المسرحي في لبنان:

بدأ فن المسرح في لبنان مع مدارس الإرساليات، حيث كانت تقام في آخر كل سنة دراسية احتفالية تتضمن مسرحية قصيرة. يقول نزيه خاطر كبير نقاد المسرح اللبناني: "كان المسرح اللبناني قرويا ريفيا بممثلين ومؤلفين محليين، يقام في المناسبات والأعياد ليومين أو ثلاثة".

ومع مطلع القرن العشرين، شهدت بيروت نهضة ثقافية مميزة، ترافقت مع نهضة عمرانية لا سيما فيما يتعلق بالمباني التي احتضنت السينما والمسرح؛ فقد تزينت ساحة البرج - قلب بيروت النابض وقتذاك - بمجموعة من المسارح مثل: مسرح الكريستال، مسرح الرويال، مسرح الامبير، مسرح التياترو الكبير، ومسرح شهرزاد...

وقد بنيت اول ركيزة للمسرح اللبناني في منتصف القرن التاسع عشر، واستكمل البناء في منتصف القرن العشرين، وكان التأسيس الحقيقي لأول مسرح لبناني عند عودة "مارون النقاش" من أوروبا إلى لبنان ليؤسس فرقة مسرحية صغيرة من إخوته وأقاربه.

وبدأ النقاش تجربته عندما قدم مسرحية "البخيل" أمام الجمهور المحلي والسلك الدبلوماسي، ولاقت حينها نجاحا كبيرا. كما قدم مسرحية "أبو حسن المغفل" و"هارون الرشيد"، محاولا في هذه المسرحيات عرض العمل المسرحي الغربي بإطار شرقي متصل بالتراث العربي.  

لقد حاول النقاش تقديم مسرح يناسب جمهوره من الطبقة البرجوازية حتى لا يُحسّ هذا الجمهور بالغربة مع مسرحه الذي كان أقرب إلى الأوبريت غناء وقولا وتمثيلا، وليس مسرحا كلاسيكيا عاديا [6].  أما الفنان شوشو (حسن علاء الدين) فقد حوّل مسرح شهرزاد الى مسرح يومي حمل عنوان "المسرح الوطني"، وبدأ منذ العام 1965 بتقديم مجموعة من المسرحيات الكوميدية الساخرة التي تتعاطى شؤون المجتمع السياسي الاجتماعي اللبناني.

إلى جانب المسرح الكوميدي الشعبي الذي كان في أوج مجده في ستينيات القرن الفائت، عرف الجمهور اللبناني حركة ما عُرف بمسرح “الشانسونييه”، التي كان من أبرز روادها: إيفيت سرسق، وغاستون شيخاني، ووسيم طبارة، وسامي خياط، وإلياس إلياس، ودودول (عبد الله نبوت)، ومحمد شبارو، وكريم أبو شقرا، ونبيه أبو الحسن.

وكان هذا المسرح نسخة لبنانية مستوحاة من مسرح “الشانسونييه” الفرنسي الساخر، وكان يعرض مسرحياته بأسلوب لا يخلو من النقد اللاذع، يغمز فيها من قنوات رجال السياسة اللبنانيين، معبرا عن مكنونات المواطن اللبناني المُثقل بشتى أنواع الهموم الحياتية اليومية.

أيضا لا بد من الإشارة الى الفنان المبدع روميو لحود الذي سعى خلال مسيرته الفنية، الى إحياء التراث أو الفولكلور اللبناني وتطويره وتقديمه مادة فنية راقية إلى الجمهور، من خلال العروض المسرحية والرقصات الموسيقية الفولكلورية، التي ما زالت مطبوعة في ذاكرة الكثيرين حتى اليوم؛ مثل أعماله مع الفنانة صباح، مجدلا، وسلوى القطريب الذي شكل معها ثنائيا لفترة غير قصيرة.

 

دراسة حالة: المسرح الرحباني (الأغزر إنتاجا والأطول عمرا)

 مع هذه الأجواء المسرحية اللبنانية المتنوّعة، شقّ المسرح الرحباني طريقه في اتجاه مستقل ومختلف، مستفيداً من تجارب من سبقوه، مستعينا ببعضهم، ومدخلا تجارب بعضهم الآخر، جامعاً من توجهاتهم الفنية ما يعطي نكهة مختلفة لمسرحه. فاستعان من المسرح الطليعي بـ: أنطوان كرباج وروجيه عساف ومادونا غازي وأندره جدعون، واستوحى من تجاربهم الجادة أفكارا غذت مسرحياته التاريخية مثل: “فخر الدين” و"جبال الصوان” و”بترا” وغيرها.  كما استعان من المسرح الضاحك بأبي سليم الطبل وفهمان وأسعد، واقتبس من المسرح الساخر انتقاداته ومواقفه اللاذعة مع فيلمون وهبي، كما عمل على جمع عناصر ثقافية مميزة في مسرحه مثل التراث والفولكلور؛ وفي سبيل تحقيق ذلك المزيج، جمع نخبة من الفنانين الراقصين وعلى رأسهم عبد الحليم كركلا الذي انطلق بعد ذلك من المسرح الرحباني الى العالمية.

 

بدايات الرحابنة:

وإذا عدنا الى الوراء، إلى بداية الخطوات الأولى التي خطاها الأخوان رحباني لتأسيس مسرح غنائي لبناني الهوية؛ كانت مشاركتهما في عمل هزلي كتبه بالعامية لويس أبوجودة، وتولّيا فيه مهمة الإخراج؛ إلى جانب عملهما في سلك البوليس (الشرطة) في مستهلّ شبابهما. ففي حين عمل عاصي كشرطي بلدي في بلدية أنطلياس سنة 1939، انتسب منصور إلى سلك الأمن العام بعده بسنة، وأسسا مع مجمـــــوعة من شــــباب أنطلياس نادياً ثقافياً أسموه "نادي أنطلياس"، الذي شكل منصة لهما للقيام بأعمال مسرحية غنائية، فقدما بعض الأعمال القصـــــيرة كــــلاماً ولحناً، مثل: "عرس في ضوء القمر" و"عذارى الغدير" و"تاجر حرب"، ثم عادا فاقتبسا للمسرح قصة "حسناء الحجاز" لإميل حبشي الأشقر، ووضعا لها الموسيقى؛ بعدها تناولا نصاً لفريد أبو فاضل عن النعمان الثــــالث ملــــك الحيرة وحولاه إلى أوبريت، كما كتبا ولحنا مسرحية غنائية بعنوان "إيليا"؛ هذه الأعمال كانت تعرض في المناسبات السنوية التي كان ينظمها النادي بداية الخمسينيات.

تابع الأخوان الشابان تلحين بعض الاسكتشات الغنائية التي كانت تنتجها إذاعة الشرق الأدنى، مثل "بارود اهربوا" و"برّاد الجمعية" و"حلوة وفيلا وأنطوبيل" و"مسرح الضيعة" وغيرها.[7]

رويدا رويدا بدأت فكرة مسرح غنائي شامل تتبلور أكثر فأكثر، وأصبحت الفكرة واضحة لدى الأخوين، فأسسا الفرقة الشعبية اللبنانية، بهدف بعث التراث الشعبي لتقوية الأغنية اللبنانية وإحياء الفولكلور.

009aa.jpg

بدأت المهرجانات في لبنان في عام 1956 وعلى رأسها مهرجان بعلبك الدولي، وصار هناك تفكير بإدخال المسرح اللبناني إلى هذا المهرجان، فاقترح الرحابنة على رئيس جمهورية لبنان آنذاك كميل شمعون المشاركة مسرحيا في هذا المهرجان، ووافق الرئيس.  وبدأ الأخوان رحباني بتقديم ما دعي بالليالي اللبنانية، فقدما عملاً مؤلفاً من لوحات غنائية بعنوان: «عادات وتقاليد». ونجحت التجربة. وكرّت سبحة المهرجانات التي شارك فيها الرحبانيان مع فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم. ولم يطل الوقت حتى تركز الشكل النهائي للمسرحية الرحبانية بما فيها من شعر وموسيقى وأغنيات حملها الصوت الفيروزي إلى أقاصي الأرض.

معظم مسرحيات الأخوين رحباني مستوحاة من القرية اللبنانية ومن المدينة اللبنانية أيضا؛ فمن الأعمال التي تصوّر أجواء القرية اللبنانية بمناخها وناسها وعاداتها وتقاليدها وأعراسها المجموعة التي تتألف من تقاليد وعادات (1957)، موسم العز (1960)، البعلبكية (1961)، جسر القمر (1962)، الليل والقنديل (1963)، بياع الخواتم (1964)، دواليب الهوا (1965). والمسرحيات التي تدور في مناخ المدينة ومشاكلها وهموم ناسها مع إطلالات على شؤون الحكم والحكام وعلاقتهم بالفئات الشعبية، هي: هالة والملك (1967)، الشخص (1968)، صح النوم (1970)، يعيش يعيش (1971)، ناطورة المفاتيح (1972)، المحطة (1973)، لولو (1974). وهناك عملان مستوحيان من التاريخ هما: أيام فخر الدين (1966) وبترا (1977)، إلى جانب مسرحية ذات طابع ملحمي هي: جبال الصوان (1969).  ومن ثم الأعمال التي أنتجت خلال الحرب اللبنانية، مثل المؤامرة مستمرة (1980) والربيع السابع (1984)، ولم تشارك فيروز في هذين العملين.

وإذا عدنا الى بدايات هذه المهرجانات، نتوقف مع مسرحية "موسم العز" عام 1960 التي حملت أفكارا مختلفة عما قدماه الاخوان رحباني سابقا، فكانت المسرحية الأولى (بطولة صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين) التي طرحت قصة تحاكي قصص المجتمع القروي اللبناني، علاقة حب بين فتاة وشاب ينتميان الى قريتين متجاورتين، ولكن عداوة قديمة فرّقت بين الأهالي وأقامت حواجز الكراهية والبغض بينهما. الحبكة تتكرر في معظم مسرحيات الأخوين رحباني، حيث ينقسم الأهالي إلى معسكرين متخاصمين، بسبب الأطماع والمؤامرات التي تلعب بمصائر أهل القرية، والقاسم المشترك في معظم مسرحياتهما هو الغريب-الدخيل الذي يأتي من المجهول ليرمي الفتنة ويحرّض الأهالي على بعضهم البعض.[8] حبكة تشير بشكل غير مباشر الى الصراعات المستمرة في المجتمع اللبناني؛ هي الحبكة الرحبانية المبسّطة لتصوير الصراع السياسي بين اللبنانيين، انما بقالب فني.

كرت السلسلة المسرحية للرحابنة، وقد اعتمدت بمعظمها على البطولة النسائية: فيروز؛ واستمرت بمعدل مسرحية واحدة تقريبا سنويا، وأصبح المسرح الرحباني جزءا من الثقافة اللبنانية، وأرسى نوعا جديدا من المسرح يدور في إطار الوطن والأرض، المدافع عن الفقراء، الساعي إلى الحرية، المتمسك بالأفكار الإنسانية...

كانت العروض تحظى بفرح وترحيب كبير من المشاهدين، وأضحى المسرح الرحباني العلامة الفارقة الإيجابية في المسيرة الفنية اللبنانية، وأصبح الثلاثي عاصي ومنصور وفيروز الحالة الفنية الإيجابية السائدة في المجتمع اللبناني.

قدمت فيروز مع الأخوين عاصي ومنصور مئات من الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، لتميزها بقصر المدة الزمنية والتصاقها بقوة المضمون، على عكس الأغاني العربية التي كانت سائدة في ذاك الزمان، وتوجه هذا الغناء للحب، وللأطفال، وللوطنية وللحزن، والفرح، والأم، والوطن، وعدد كبير من هذا التوجه الغنائي قدم ضمن الكثير من المسرحيات التي ألفها ولحنها الأخوان رحباني، تنوعت مواضيعها بين النقد السياسي والاجتماعي، وتمجيد الشعب والبطولة والتاريخ العريق، والحب على تنوعه.[9]

لم تكن رحلة الرحابنة سهلة، فالنهج الغنائي الذي اتبعوه سواء في الأغاني أو في المسرح لم يكن مألوفا، سواء على مستوى المسرح، أو على مستوى الأغنية القصيرة... وواجهوا انتقادات متنوعة سواء من المسرحيين الذين سبقوهم أو عاصروهم، وكانت أعمالهم تهاجم بصفتها منوعات غنائية وليست مسرحيات إبداعية.

واستمر المسرح الرحباني بالعمل رغم كل الظروف، حتى عندما أصيب عاصي بالمرض، استمر العمل الفني.  ومع إطلالة الحرب اللبنانية عام 1975، حاول الرحابنة إكمال المسيرة، فكانت مسرحية بترا العمل الأخير لهم كثلاثي، والذي عرض للمرة الأولى خارج لبنان في الأردن عام 1977، ثم في سوريا في نفس العام ولاحقا في بيروت عام 1978.

 

قراءة تحليلية للمسرح الرحباني:

يعتبر صوت فيروز في مسرح الرحباني رافعة كبيرة لهذه التجربة، ليس فقط بدافع التحفيز، ولكنه كان يلعب دورا مهما في التأليف والتلحين، وسببا مهما في رقيّ المسرح الرحباني؛[10] فيروز كانت البطلة الدائمة لكل مسرحيات الرحابنة منذ البداية وحتى الحرب اللبنانية عام 1975، يتغير الأبطال الرجال (أنطوان كرباج - جوزيف ناصيف - نصري شمس الدين ...) إنما فيروز ثابتة؛ المرأة القوية القائدة صاحبة السلطة: كانت تصول وتجول على المسرح، خارقة كل المفاهيم الاجتماعية، كاسرة الصورة النمطية الكلاسيكية للمرأة.  صوتها يصل أسماع كل العالم في الراديو والتلفزيون والمسرح، معتنقة مهنة غير مقبولة اجتماعيا (الفن عامة: الغناء والتمثيل) في الوقت الذي كانت معظم النساء في لبنان لا زلن يمارسن الدور التقليدي الكلاسيكي: الزوجة والأم.

 منذ انطلاق فيروز مع الرحابنة لم يفترقوا أبدا، عمل الرحابنة لمدة تزيد عن 15 سنة، بإصرار غريب، وبنموذج متميز فريد، أخذوا ممن سبقوهم من الشرق واستأنسوا بالموسيقى الغربية؛ ووصل اسمهم الى مختلف أنحاء العالم في الوقت الذي لم تكن فيه التكنولوجيا قد سيطرت على المجتمعات.  كان العمل الموسيقى عملا مرهقاً بدائياً إذا ما قارناه بالتسهيلات الموجودة حاليا. الراديو والمسرح والسينما والاسطوانات كانت السبيل شبه الوحيد إلى الناس، حتى التلفزيون لم يكن بنفس القوة الحالية؛ رغم هذا قدم الرحابنة مئات الحلقات التلفزيونية والإذاعية من برامج ومسلسلات ومنوعات وتمثيلات واسكتشات موزعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات.

يتداخل الخاص بالعام في المسرح الرحباني، وتغدو المسرحيات الرحبانية وكأنها صورة مصغرة عن الواقع اللبناني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني؛ انطلاقا من هنا نتساءل: ما هو تأثير المسرح الرحباني على المجتمع اللبناني؟ هل أثر على صورة ووظيفة المرأة اللبنانية؟ هل انعطف عن المعالجات النمطية للعلاقة بين الرجل والمرأة الى آفاق أرحب؟ وما هو الأثر الذي تركه على المواطن اللبناني كفرد وكجماعة؟ وهل اثرت النظرة المثالية الرحبانية للوطن على نظرة أفراد المجتمع اللبناني لمجتمعهم ووطنهم؟ هل استطاع المسرح الرحباني ان يؤثر إيجابا على مجتمعه، وبالتالي هل استطاع أن يوقظ الوعي السياسي ويوحد اللبنانيين في دفاعهم عن وطنهم كما وحدهم على محبة المسرح اللبناني وفيروز؟

معظم أعمال الرحابنة تتطرق لمفهوم المواطنة، عبر طرح فكرة الديمقراطية والحوكمة الرشيدة بشكل مباشر أو غير مباشر؛ كذلك مسألة الحكم وكيفية إدارة الجماعة، في زمن كانت الديمقراطية مسار تساؤل واستفسار ومسعى تنشده معظم الدول العربية.

تنطلق معظم الحبكات المسرحية من خلال البطلة الأنثى فيروز: المرأة القوية الباحثة عن الحق العاملة على تحقيق العدالة ورفع الصوت في وجه الظلم؛ لذا سنعمل على الإضاءة على تأثير المسرح الرحباني على واقع وصورة المرأة اللبنانية، والاهم التأثير المسرحي على الوعي السياسي والحس الوطني لدى كل اللبنانيين.

 

صورة المرأة اللبنانية:

المسرح الرحباني كسر الصورة النمطية للأعمال الفنية التي تفترض البطولة الذكورية او على الأقل البطلين: الرجل والمرأة، فكانت فيروز دائما هي البطلة الأولى في العمل، مع بطولة لمجموعة متنوعة ومتغيرة من الذكور. كما كسر النمط السائد للمرأة في ذلك العصر؛ فيروز كانت مزيجا من المرأة القوية البطلة، كما كانت صورة الوطن الحلم. وقدمت نموذجا مغايرا إلى حد كبير لصورة المرأة اللبنانية التقليدية: هل كان هدف الرحابنة كسر التمييز الجنسي أم ان الهدف الفني لهذا الثلاثي توافق بالصدفة مع هذه الفكرة؟ 

وإذا ما أردنا المقارنة بين الماضي والحاضر نلاحظ ان واقع المرأة اللبنانية قد تغير منذ ذلك الزمن، وأصبحت شبيهة بالمرأة الحاضرة في المسرح الرحباني، سواء على صعيد اختيارها لشريك حياتها كما طرحت في مسرحية "هالة والملك"، أو من خلال حقها في المشاركة في الشأن العام كما في سائر مسرحيات الرحابنة. فالمرأة اللبنانية اليوم تقارع الشباب في التعليم، ونسبة الطالبات في الجامعات تتعدى الـ 50%، كما أنها أضحت ناشطة في سوق العمل.  صحيح أن نسبة النساء العاملات في لبنان ما يقارب الـ 25% حسب الأرقام الصادرة عن الدولية للمعلومات،[11] انما الكثير من النساء يعملن بشكل حر، أو بشكل غير موثق. بالإضافة الى ان المرأة باتت موجودة في العمل السياسي، وإنْ بنسب خجولة، لكنها ناشطة في الأحزاب السياسية وفي العمل النقابي، وفي الإدارات العامة والخاصة في لبنان، مما يشير إلى أن الرحابنة نجحوا إلى حد بعيد في تغيير الثقافة المتعلقة بالمرأة اللبنانية وساهموا في خروج المرأة عن دورها التقليدي وصولا إلى مشاركتها في الشأن العام اللبناني.

 

القيم الإنسانية والوطنية:

هنا بيت القصيد في الإطلالة على تأثير المسرح الرحباني على المجتمع اللبناني ككل؛ فكما هو واضح من المسار التاريخي لهذا المجتمع، أن الاهتزازات الأمنية والأحداث السياسية تكاد تكون متلازمة دائمة الحضور، وأن لبنان ما ي أن ينجو ويستقر من حدث ما أمنياً او سياسياً، حتى يعود للغرق في أحداث أخرى: منذ استقلال لبنان في العام 1943 وحتى يومنا هذا، لا يكاد يمر عقد من الهدوء والاستقرار النسبي حتى تعود الأحداث الأمنية والسياسية إلى الواجهة، وعلى سبيل المثال لا الحصر أحداث 1958، وأحداث 1969، وأحداث 1973، وبداية الحرب اللبنانية 1975، واستمراها ما يقارب العقدين من الزمن، وصولا لاغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلا ذلك من اهتزازات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية لا زال صداها يتردد حتى يومنا هذا ...

تحت عنوان "بترا: ما أتعس انتصارك!" يكتب المفكر اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "فيروز والرحابنة.. مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" عن تلك التجربة الشخصية الأليمة لفيروز وعاصي الرحباني، يكتب عن بترا التي "هي خزنة لإيداع الأموال الهاربة من جور الرومان مثلما لبنان المعاصر خزنة لإيداع الأموال النفطية أو الأموال الهاربة من زحف حركة التحرر العربي والتأميمات أو أموال التهريب أو الأموال المبيضة"، وعن لبنان المستقبل الذي تم التضحية به في مقابل بترا القديمة التي انتصرت على الرومان.

بعد الانتصار المسرحي لبترا، لم تتوقف الحرب. قدم الأخوان رحباني مسرحيتين عن الحرب من دون فيروز، "المؤامرة مستمرة" و "الربيع السابع"، تحولت في أولاهما الحرب إلى دعوة ليس للوحدة الوطنية ولكن للعدل الاجتماعي، وفي الثانية أضحت خلافا زوجيا يتدخل فيه كل الأطراف، لتنتهي بنبرة أمل في غد أفضل وسعي للحلم.[12]

حاول الرحابنة في كل ما قدموه على مسرحهم أن يختموا الأحداث بصورة إيجابية  تصب في مصلحة المجتمع والجماعة: انتصار الحق، فوز الوطن، حتى لو كان الثمن  موت البطل كما في مسرحية فخر الدين؛ أو بتمجيد الوطن والثورة على الحاكم ورفع الصوت كما في جبال الصوان، حين تشدو فيروز "الصغير ووسع الدني يا وطني"، وتعاند رمز السلطة وتصرخ "ما في حبوسة (سجون) بتساع (تحتوي) كل الناس" كدليل على سياسة كم الأفواه ، تلك الكلمات كررها الكثير من اللبنانيين خاصة خلال الحراك الأخير في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019؛ أو بالتشجيع على الحرية كما في ناطورة المفاتيح، فتغدو أغنية الحرية مرجعا ورمزا للكثير من الأحزاب والحركات السياسية في لبنان:

طلعنا .. طلعنا .. تحررنا .. طلعنا
طلعنا على الضو طلعنا على الريح
طلعنا على الشمس طلعنا على الحرية
يا حرية يا زهرة نارية يا طفلة وحشية يا حرية
صرخوا ع العالي على العالي

اركضو بالحقالي على العالي
قولو للحرية نحنا جينا

وافرحوا .. افرحوا

تنتهي مسرحية "يعيش يعيش" بفكرة القطيعة بين الحاكم والشعب كما في أغنية: "الرعيان بوادي، والقطعان بوادي"، مؤكدة الاختلاف الكبير بين عالم الحاكمين، وعالم المحكومين. وكأنما هي دلالة على حالة الطلاق بين المواطنين اللبنانيين والسلطة في لبنان.

وفي "بترا"، آخر مسرحية مثلتها فيروز، تمت التضحية بالابنة في سبيل الوطن، نموذج متميز يقدمه الرحابنة فداء للوطن، علّ المسؤولين يتعظون من فكر الرحابنة.

كل هذا قدمه الرحابنة في قالب موسيقي مميز، تراوح بين الحوارات الموسيقية والأغاني والثنائيات (duo)، وحاول ترسيخ بذور الخير في نفوس المواطنين اللبنانيين وعقولهم على اختلاف مراكزهم: مواطنين ومسؤولين.

009bb.jpg

 

الرسالة والهدف في المسرح الرحباني:

الكثير من الأعمال المسرحية التي وضعها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، حملت رسائل في الحب بكافة أشكاله: حب الوطن، حب الأرض، حب الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كما حمل مسرحهما قضايا الإنسان في بعدها النضالي، ترافقت مع ثورات التحرر التي غزت الشارع البيروتي في ستينيات ومنتصف سبعينيات القرن الفائت. فعرف هذان العبقريان أن يوظفا صوت فيروز لنشر كل افكارهما وهواجسهما إلى العالم. ولعل صوت فيروز بخفره وحيائه وانسيابه في المسام، هو صوت المرأة الثائرة والورعة في آن معاً، المتأججة شوقاً وعشقاً ورغبة وتمرّداً، تمرداً خفياً، ولكنه واضح الإيحاء. [13]

شغلت الحرية اهتمام الأخوين رحباني، وشكّلت محورًا أساسيًا في معظم أعمالهما. في مسرحية "عودة العسكر"،[14] لم يضعا القضية في إطار فلسفي، بل عملا على استنهاض الشعور الوطني من خلال وصف معركة تشهد بطولة جنود "إلهن الملاعب وقهر المصاعب"، ويطلقان نفسًا ثوريًا يتوجّه إلى المشاهدين بسحرٍ ومرونة من دون الحاجة إلى اعتماد المباشرة الفجّة: "وصار السيف يقارع سيف، ويسكر مجد ويسكرنا"؛ وصف فيه من الكثافة الشعرية والغنائية العذبة ما يجعله الأنسب لاحتضان تلك الحكاية، بينما تقف القوى المعتدية في الطرف الآخر غير الظاهر، الذي يأخذ شكله بالكلمة والضمير الغائب: "عالإعدا (الأعداء) كترنا (أكثر عددا)".[15]

في مسرحية "فخر الدين" جرى الاعتماد على أحداث حقيقية جرت في أوائل القرن السابع عشر. العام هو 1618، وفخر الدين (نصري شمس الدين) عائد إلى لبنان بعد خمس سنوات في المنفى، ليقابله الناس باستقبال دافئ وحماسي. قال إنه عائد إلى لبنان بهدف سامٍ وحيد، وهو إعمار لبنان، إعمار البيوت، القلاع، القصور، الطرق والجسور، وتشجيع الزراعة والتجارة. قدم الأهالي هدايا له عربون محبة ودعم، فرحاً بعودته. عطر الليل (فيروز) صبية من أنطلياس، اختيرت لتقدم له سيف ذهبي، كما غنت له.  تأثر فخر الدين بصوتها، وطلب إليها أن تبقى إلى جانبه، وأن تستمر بالغناء لتجمع الناس على محبة لبنان من خلال أغانيها. في ختام المسرحية يقع فخر الدين في الاسر، عطر الليل خائفة عليه من المصير؛ سألها إن كان لبنان قد تعمر والأراضي زرعت والجسور رُفعت، فتجيبه إن ذلك كله صار، فيقول عندئذ: وما هم ذهابي؟ فالوطن سيبقى؛ ويستسلم فخر الدين فاديا لبنان.[16]

في مسرحية "هالة والملك"، يصرخ الأخوان رحباني من ساحة سيلينا على لسان ابنة درج اللوز أنْ للمرأة حقها الطبيعي في تقرير مصيرها بعيداً عن حسابات الآخرين ولا مصلحة في الحبّ ولا زواج بدون حب. وتقف هالة بصمودها هذا مع فتيات ونساء شرقنا الذكوريِّ المفاهيم والماديِّ القيم داعية إياهنَّ لرفض العبودية المغلـَّفة بالإغراءات، حتى ولو كانت المكافأة قـَصْراً ورِفـْعة ملكية.[17]

في مسرحيّة "جبال الصوّان"، لا تتردّد غربة (فيروز)، وهي لسان الأحرار وصوتهم، في كلّ مكانٍ وزمان، في إعلان التصدّي المباشر (وجهًا لوجه) لفاتك، الحاكم المتسلّط (أنطوان كرباج)، الذي يهدّدها بالسجن بسبب تحدّيها له وتَجَرُّئها عليه، قائلةً له بالحرف الواحد وبالصوت الجهير الملآن: "الأرض ملك الكلّ، لكنْ ما بتساع الناس والظلم. لمّا بيوقع (يحصل) الظلم بتضيق الأرض"، فيجيبها فاتك بهدوء: "عم تحكي أكتر ممّا لازم تحكي (بغضب) يا ها البنت المغروره، بعطيكي فرصة يوم، يا بترحلي يمّا أنا بشعّلا، وبقتلك، إنتي آخر سليلة مدلج، وبتخلص هالقصّه"، فتردّ عليه غربة: "شو بدّك تقتل ت تقتل؟ ما بقا رح تخلص القصّه". كلام أخير، أستلّه من الحوار بين غربة وشعبها، شعب أبيها مدلج الذي قُتِل على بوّابة جبال الصوّان. واحدٌ من الشعب: عمبيقولو بدّن يعتقلوا ناس كتير. غربه: لا تخافوا. ما فيه حبوسة تساع كلّ الناس. بيعتقلوا كتير، بيبقى كتير وباللي بيبقوا رح منكمّل. فليفهم المسؤولون جيّدًا: ما فيه حبوسة بتساع كلّ الناس[18]!

في مسرحية "يعيش يعيش" يحصل انقلاب عسكري جديد في إمبراطورية ميدا، المصابة بوباء الانقلابات. ثم انقلاب جديد فاسد أيضاً، وغير فعال، شأنه شأن الحكم السابق. وما بين الانقلابات المتتالية في هذه الإمبراطورية، تنتهي المسرحية بفكرة لاذعة في أغنية تقول: "الرعيان بوادي، والقطعان بوادي" مؤكدة الاختلاف الكبير بين عالم الحاكمين، وعالم المحكومين. وتعد مسرحية "يعيش يعيش" من الأعمال ذات الأهمية الكبرى في عالم الموسيقى والمسرح والغناء الرحباني، وتكون الكلمات التي تنطق بها الشخصيات مستقاة من صميم الواقع اللبناني، كما أغلب مسرحيات الرحابنة.

في مسرحية "بترا" يحارب ملك بترا الرومان تاركا زوجته الملكة شكيلا (فيروز) لإدارة المملكة، تأتي القوافل لحفظ كنوزها في مملكة بترا، ومن ضمن القادمين جنديان رومانيان يخطفان ابنة الملك والملكة في مقابل انسحاب الملك من المناطق التي حررها من الرومان. ترفض الملكة ان تضحي بمملكتها في مقابل حياة ابنتها. يعود الملك متوجا بالنصر لكن الفرحة تغيب عند معرفته بالثمن الكبير الذي دفعه في مقابل هذا الإنجاز.

009cc.jpg

 

أثر فيروز والمسرح الرحباني على المجتمع اللبناني:  

يمكن أن نقترب أكثر إلى فهم خفايا المسرح الرحباني، الذي لم يعبر عن نفسه من خلال مقولة "الفن من أجل الفن" التي نادى بها جماعة من النقاد في أوروبا في أواسط القرن العشرين، بل من خلال مقولة: "الفن من أجل المجتمع"، بمعنى آخر، اعتبر الأخوأن رحباني أن الجمال لا يستطيع أن يبرر ذاته فقط، بل ينبغي أيضاً أن يقاس تبعاً لمقتضيات الأخلاق التي نادى بها فلاسفة ومنظّرون أمثال كلايف بل. فالاستسلام الواهم أحياناً للجمال يبعدنا عن رؤية الخير الكامن فيه.[19]

تقول الكاتبة الكويتية سعاد فهد المعجل في مجلة القبس بتاريخ 10 آب/أغسطس 2020: "حين كنا صغارا نتابع مسرحيات "فيروز" لم نكن ندرك آنذاك مغزى مسرحية "بترا" ولا "ميس الريم" ولا ما وراء مسرحية "المحطة"، فلقد غاب عنا ربما لظروف السن المغزى البعيد من وراء الكثير من الأعمال اللبنانية التي طالما تنبأت بما يحدث اليوم على أرض الواقع. كنا نرى في لبنان مصيفا جميلا.. وطبيعة خلابة.. وشعبا مضيافا.. ولم نكن نرى تلك الغيوم السوداء المتراكمة فوق سماء بيروت.. أدركنا ذلك يوم تفجرت العاصفة في 13 نيسان/ابريل عام 1975 في حادثة عين الرمانة.. ومن يومها اشتعل الحريق في لبنان ولم يزل. في الحالة اللبنانية غالباً ما يبقى الفاعل مجهولاً.. على الرغم من أن الفعل دائما معلوم.. حدث ذلك في حرب السبعة عشر عاما التي أنهكت بيروت وقسّمتها.. وتكرر المشهد في حادثة اغتيال الحريري.. واليوم ينشط المحللون في البحث عن الشرارة التي فجّرت مرفأ بيروت".

هذه عينة مما يكتب عن لبنان وما يجري في لبنان، لسنوات طويلة ردد معظم اللبنانيين أغاني فيروز والحوارات المغناة داخل المسرح الرحباني بكل شغف وفرح وإيمان؛ خاصة خلال الأحداث والمناسبات الوطنية، ومؤخرا خلال حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

المسرح الرحباني جمع اللبنانيين حوله، وأسس للمسرح الغنائي في لبنان، وساهم في إيصال الأغنية اللبنانية بصوت فيروزي جميل الى مختلف أنحاء العالم، ربط اللبنانيين بحبل مودة فني عاطفي، وجعل من فيروز رمزا للسلام، وسفيرة للبنان في مختلف أنحاء العالم. ولعل لقب سفيرتنا إلى النجوم الذي لطالما ارتبط باسم فيروز خير دليل على قوة حضور هذا الثلاثي المتميز في قلب ووجدان جميع اللبنانيين ومعظم العرب في مختلف أنحاء الأرض.

حمل المسرح الرحباني قيما وطنية وإنسانية، وعمل على زرعها في وجدان المواطن اللبناني، ابتداء من الحرية مرورا بالدفاع عن الوطن والأرض ... ناثراً عبر كلماته بذور الأحلام في تحقيق وطن العدالة الاجتماعية.  إنما هل فعلا طُبعت معاني المسرحيات وكلمات الأغنيات والقيم المنشودة وحب الوطن والدفاع عنه في الذهنية اللبنانية والثقافة اللبنانية وحولتها من كلام إلى فعل؟ هل أستطاع المسرح الرحباني أن ينشر الوعي السياسي ويعزز مفهوم المواطنة لدى اللبنانيين؟ هل تحققت الرسالة الرحبانية؟ هل وصلت إلى المواطن اللبناني؟ وهل ساهمت في التماسك الوطني؟ هل سمع القائمون على السلطة في لبنان ما أراده الرحابنة من تحقيق للعدالة الاجتماعية؟ وهل وصلنا الى مدينة الرحابنة الفاضلة؟

في الواقع اللبناني الحالي ازدواجية في سلوك اللبنانيين: محبة الرحابنة وفيروز جمعتهم، إنما لم تستطع ان تخلق بعد، التغيير المنشود في الوعي أو الذهنية أو الممارسة الوطنية بعد. استطاع الرحابنة ان يحدثوا تأثيرا في ذهنية الإنسان-الفرد وليس في ذهنية المواطن، فكانت التغيرات تصب في مصلحة الإنسان-الفرد ولصالحه الخاص وليس لصالح الجماعة. وما ينطبق على المواطن اللبناني العادي ينطبق أيضا بما لا يقبل الشك على المسؤول اللبناني، فلا المواطن استطاع أن يسهم حتى اليوم في صناعة التغيير ولا المسؤول صنع هذا التغيير.

المسرح الرحباني وحده لا يستطيع ان يخلق تغيرا كاملا في سلوكيات اللبنانيين، وايحاءاته السياسية لا تستطيع أن تقاوم العناصر الثقافية الأخرى (الممارسات اللبنانية، العقيدة، الأفكار السائدة ....) التي تكرس الانقسام في المجتمع اللبناني: هو عنصر هام بدليل أنه استطاع أن يحتل الذاكرة الثقافية للبنانيين وللعرب؛ إنما تأثيره وحده لا يكفي للتأثير على الذهنية اللبنانية التقليدية المكبلة بالزعيم والسياسي وصاحب السلطة. وأصحاب السلطة في لبنان وهم الحاضرون دائما في مقدمة الجمهور للاستمتاع بالفن الرحباني، شأنهم شأن المواطنين لم يستطيعوا الالتزام بمضمونه وهدفه ولم يستطيعوا بعد إحقاق العدالة الاجتماعية.

المسرح الرحباني جزء من الثقافة الشاملة في المجتمع اللبناني، وقد ساهم في عرض مشكلات المجتمع اللبناني وظواهره، إنما نهايات مسرحياته جاءت غالبا مثالية، لا تتطابق مع ما يجري اليوم على الساحة اللبنانية. المسرح وحده لن يستطيع أن يقاوم كل العناصر اللبنانية الأخرى التي تلعب دورا في شرذمة اللبنانيين؛ خاصة السلطة - وسياستها الاجتماعية غير العادلة - التي تبدو عاجزة عن جمع اللبنانيين على حب الوطن، وكثيرا ما لعبت دورا كبيرا في شرذمتهم طبقيا وطائفيا ومذهبيا، وسمحت للحس القبلي العشائري ن يطغى على الجماعات اللبنانية من خلال غياب دولة العناية الحامية للمواطنين.

في المقلب الآخر من الموضوع، نجحت الوراثة السياسية في لبنان، فأبن الزعيم زعيم والمسار السياسي الكلاسيكي لهم ولورثتهم يسير كما هو مخطط له، والشواهد في لبنان كثيرة، في حين أن الوراثة الفنية، أبناء الرحابنة (زياد وأسامة وغدي وغسان الرحباني) يقدمون بين الوقت والأخر أعمالا جيدة تتشابه إلى حد ما مع ما قدمه الأخوان رحباني، إنما الثلاثية الذهبية: فيروز وعاصي ومنصور، ثلاثية متفردة ومميزة لم ولن تتكرر.

رحل عاصي ثم رحل منصور واعتكفت فيروز، وبقيت الآثار الفنية الرحبانية درة مميزة في تاريخ الفن اللبناني شاهدة على زمن مميز من تاريخ المجتمع اللبناني. وبعد أن كان المسرح الرحباني ينتج ما يقارب عملا مسرحيا كل سنة، بتنا أمام شبه جفاف فني مسرحي في لبنان.

فيروز والرحابنة حاضرون في الذاكرة العربية، بل ونجح هذا الثلاثي في تكريس ذاكرة جماعية فنية مشتركة بين اللبنانيين والعرب، هم حاضرون في صباحات العرب وعلى مختلف المحطات الاذاعية والتلفزيونية. انما فيما يختص بالحالة اللبنانية، المسرح الرحباني زرع بذورا قيمية في وجدان اللبنانيين يمكن ان تسهم في تماسكهم، وتوحدهم في مواجهة مشاكلهم والتغلب عليها؛ انما هذه البذور لم تثمر بعد، ربما هي بحاجة إلى المزيد من العناية والاهتمام كي تطرح أملا وغدا لبنانيا مشرقا.

المسرحيات الرحبانية تطرقت إلى المواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع اللبناني، مما يفترض أنها عملت على إيقاظ الوعي السياسي والحس الوطني لدى اللبنانيين، إنما في الواقع كل ما جرى في لبنان يؤكد أن المسرح الرحباني بحاجة إلى التكامل مع العناصر الثقافية اللبنانية الأخرى لدفع العقل الجمعي اللبناني إلى التمرد على الواقع المأزوم، ولدفع المواطنين إلى محاربة الإقطاع والتسلط السياسي. العقل الجمعي اللبناني بحاجة إلى التوحد في مواجهة مشاكل لبنان والدفاع عنه في مواجهة الفساد والمحسوبيات. وما يجري اليوم وكل يوم من أحداث وتوترات وانشقاقات وعواصف سياسية وأمنية في لبنان، يؤكد أننا لا زلنا في انتظار نضوج هذه البذور في المجتمع اللبناني.

 


[1] دكتوراه في العلوم الاجتماعية ومنسقة مادة علم الاجتماع في وزارة التربية اللبنانية.

[2] - http://qattanfoundation.org/ar/RT-61-SDC13

مؤسسة عبد المحسن القطان، فيفيان طنوس، المسرح أداة للفهم ومنصة للمعايشة،(20 أغسطس 2022)

[3] https://www.diwanalarab.com/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE

جميل حداوي، تاريخ المسرح العالمي، الجمعة ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦ . (تاريخ 27 يوليو 2022)

[4] -https://www.yabeyrouth.com/3156-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A

 موقع يا بيروت الالكتروني: المسرح العربي (تاريخ 19 أغسطس 2022)

[5] - https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=546408

الحوار المتمدن، نشأة المسرح العربي الحديث، رياض كامل، 29 يناير 2017 (19 أغسطس 2022)

[6] المسرح اللبناني.. إبداع الأغنية والرسالة، موقع الجزيرة الوثائقية، 18 مارس 2020، (29 يوليو 2022).-5

[7]   - مجلة العربي الصغير، المسرح الرحباني، د. نبيل أبو مراد، العدد 710

[8]- https://www.asswak-alarab.com/archives/8313-

جوزيف قرداحي، مسرح الاخوين رحباني صنع مجد الفن في لبنان والعالم العربي، 11-4-2015 (أخذ بتاريخ 2 أغسطس 2022)

[9]- https://m.akhbarelyom.com/news/newdetails/2575804/1/%D9%85%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B2-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5

مجلة اخبار اليوم المصرية، مشوار فيروز مع الرحبانية: الفن والحب والصراع، دعاء فودة، 19 نوفمبر 2017. (10 أغسطس 2022)

[10] - موقع الجزيرة الالكتروني، المسرح اللبناني ابداع الاغنية والرسالة، 18 آذار 2020 (14 أغسطس 2022) مرجع سبق ذكره.

[11]https://monthlymagazine.com/ شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلّة تأسّست في بيروت في العام 1995. تعالج "الشهرية" مواضيع بحثية واستطلاعية واقتصادية ومالية واجتماعية وثقافية تهمّ المواطن والمسؤول، بالإضافة إلى استطلاعات دورية للرأي العام حول المواضيع المطروحة، ومقابلات مع السفراء العرب والأجانب المعتمدين في لبنان ونواب ووزراء وفعاليات لبنانية. كما تخصص أبواباً لمعالجة قضايا ومواضيع عن سورية، ومصر، والأردن، ودول الخليج.

[12] - https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=68937

مجلة الحوار المتمدن، فيروز و الرحابنة.. صوت عصي على الوصف ومسرح يعري النزاعات ويخفيها، نائل الطوخي، العدد 1599، 2 فبراير 2006 (11 اغسطس 2022).

[13] - https://www.asswak-alarab.com/archives/8313

جوزيف قرداحي، مسرح الاخوين رحباني صنع مجد الفن في لبنان والعالم العربي، 11-4-2015 ( أخذ بتاريخ 2 أغسطس 2022).

[14] - "عودة العسكر"، لوحة غنائية قدّمها الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز كتحية للجيش اللبناني، في «يوم الوفاء»، وذلك بناء على طلب من لجنة مهرجانات بعلبك

[15] - (11 أغسطس 2022 ) مجلة الجيش اللبناني، العدد 362، أيلول 2015، عودة العسكر، هيام كيروز.

[16] - https://fairouzehfriends.ahlamontada.com/t4793-topic (11 اغسطس 2022) موقع أصدقاء من فيروزة 

[17] - http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=12773   

    مسرحية هالة والملك، دراسة وتحليل د. مفيد مسوح، 30-10-2015 (أخذ بتاريخ 26 أغسطس 2022)

[18]  - جريدة النهار اللبنانية، من جبال الصوان: ما تخافوا ما في جبوسة تساع كل الناس، عقل العويط، 5 أكتوبر 2019، (11 أغسطس 2022).

[19] - مجلة العربي الصغير، المسرح الرحباني، د. نبيل أبو مراد، العدد 710، مرجع سبق ذكر.

Rate this item
(1 Vote)
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل تؤثر الموسيقى على حالتنا المزاجية؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM